مقصد بعض العلماء في تفسير الإيمان بالإقرار والتصديق ونحو ذلك
النوع الرابع: وهو مهم ويحتاج إلى شيء من الإيضاح، وهو أننا قد نقرأ في كتب العلماء رحمه الله أنهم لم يقولوا: قول وعمل، وإنما قالوا: إقرار وتصديق، أو: إقرار وعمل، أو: تصديق وعمل، فهذه العبارات قد توهم، والمرجئة وأهل الباطل دائماً يتبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة، وهم الذين في قلوبهم زيغ كما ذكر الله، وهؤلاء الذين عنى الله، فقالوا: كيف يقولون مرة: قول وعمل، ومرة أخرى: إقرار وعمل، أو تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، وما أشبه هذا من العبارات المتضادة؟!فنقول: الأمر ليس كذلك، ولكن أنتم تسيئون الفهم؛ فإن للإقرار وللتصديق عند السلف وفي الكتاب والسنة معنى غير ما تظنون وغير ما تفهمون، والقاعدة المهمة في هذا التي لا يصح أن تفوت ولا أن تغيب عن ذهن أحد: أننا نرجع دائماً في فهم كلام السلف -ومن باب أولى كلام الله ورسوله- إلى نفس نصوص القرآن، فإنها يوضح بعضها بعضاً، فإن لم نجد ففي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد ففي كلام السلف، ولا نحاكم الألفاظ الشرعية إلى المصطلحات الكلامية، بل ولا إلى مجرد اللغة، كما فعل ابن الباقلاني ، حيث يقول: الإيمان هو التصديق، والدليل على ذلك أن الناس ما زالوا يقولون: فلان يؤمن بالبعث، أي: يصدق بالبعث. هذا معنى كلامه في التمهيد ، ورد عليه شيخ الإسلام في الإيمان فقال: القضية ليست مجرد أن نقول: هو في اللغة هكذا، بل نحتاج دائماً في تحديد الألفاظ والمصطلحات الشرعية إلى أن نرجع إلى فهم السلف الصالح والأخذ من النصوص ذاتها، فبعضها يبين بعضا، وإن شاء الله فسنوضح معنى الإقرار ومعنى التصديق بعد توضيح الأمر الثاني، وهو معنى قولهم: (قول وعمل)، وبذلك نكون قد خرجنا بنتيجة نهائية، وهي أن عبارة (الإيمان قول وعمل) عبارة شاملة جامعة مانعة، وأنها مجمع عليها حقاً، وأن من زاد من السلف أو غير أو بدل في العبارة لا يؤثر ما صنع على هذه العبارة، وأنها العبارة المختارة التي تؤدي المعنى بأوجز وأدق ما يمكن. الأمر الثاني: ما معنى (قول وعمل)؟قد ألمحنا إلى هذا عندما ذكرنا أن المرجئة قالوا: هو قول، فجاء السلف فجعلوه قولاً وعملاً، فهل كان المرجئة الذين جادلهم وناظرهم السلف يقولون: الإيمان قول، بمعنى أنه كلام باللسان فقط؟ إن حقيقة الأمر أن الخلاف كان أولاً في أعمال الجوارح فقط، فـالمرجئة من الفقهاء أو العلماء -كـحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنفية ، وكذلك أبو حنيفة - فقههم قائم على العبادات والأعمال، ففقههم عملي يبين أحكام الصلاة وأحكام الصيام والجهاد والحج والزكاة، فهؤلاء لا يمكن أن يخرجوا الأعمال من الإيمان بالكلية، لكنهم يقولون: هذه الأعمال لوازم الإيمان، ولكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان، فهي واجبات، والمؤمن لا بد له من أن يفعلها، وإن لم يفعلها فهو معرض للعقاب، لكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان. أما أعمال القلوب فلا يخرجونها، وما كان النقاش والنزاع في أعمال القلوب، فعندما قالوا: إن الإيمان قول لا يقصدون بذلك مجرد القول باللسان، بل يقصدون بذلك قول اللسان وقول القلب، ومن ثم فإن أعمال القلب الأخرى لم يكونوا ينكرونها أو يتكلمون فيها، ولهذا نلزمهم فنقول: إن كنتم تدخلون أعمال القلب في الإيمان فلا بد من إدخال أعمال الجوارح، وهذا الذي نظنه بالعلماء المتقدمين، لكن المتأخرين نقول لهم: أنتم بين أمرين، فإن أخرجتم أعمال القلب ولم تدخلوها فقد أصبحتم من الجهمية ، أي: من المرجئة الغلاة لا ممن يخرج أعمال الجوارح، وهذه المسألة ستتضح فيما بعد، لكن المقصود بيان أن الخلاف كان في أعمال الجوارح، بمعنى أن أعمال القلب لم تكن موضع جدل ولا موضع نزاع حتى عند المرجئة الأولين إلى أن ظهر جهم ، فالذي ابتدع هذه البدعة وأظهرها هم الجهمية وقد نبذهم المرجئة الفقهاء كما نبذهم السلف من أهل السنة ، لكن في النهاية نجد أن المتأخرين من الحنفية ومن الشافعية -أي: الماتريدية و الأشاعرة - يقولون: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، وبهذا خرجوا حتى عما كان يقول به أئمتهم.فالمقصود هنا أن قول السلف الصالح: إن الدين قول وعمل يعنون به الأركان الأربعة، فالقول قولان، والعمل عملان، ويجتمع ذلك في كلمتين: إقرار وانقياد، فلا يكفي الإقرار دون الانقياد، أو: إقرار وامتثال، والإقرار من غير امتثال لا ينفع، والامتثال يكون بالقلب وبالجوارح، وقد نقول: اعتقاد وتنفيذ. والحاصل أن معنى (قول وعمل): أنك تحقق وتصدق وتذعن بأعمالك القلبية وأعمال الجوارح لما تقول إنك مقر به، وهذا هو المعنى البدهي والظاهر الذي يجب أن يفهم عليه كلام السلف رضوان الله عليهم. لكن المرجئة عندما قالوا: إن الإيمان قول فقط أخرجوا الأعمال، فالأولون منهم أخرجوا أعمال الجوارح، أما عمل القلب فلم يتكلموا فيه، وأول من أخرج أعمال القلوب هو الجهم ، وقد ابتدع بدعة أنكرها عليه الطائفتان كلتاهما؛ لأنه قال: إن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب. ولو عدنا إلى مبحث النبوات وبم تثبت النبوة عند المتكلمين ومنهم المرجئة وغيرهم لوجدنا أن جهماً بلغ الذروة في الغلو فيما يحصل به الإيمان بالنبي، فحين يأتي النبي إلى قومه بالمعجزة الدالة على إثبات نبوته فإن بعضهم يقول: آمنت واتبعت، فيكون هذا مؤمناً من الأتباع، وبعضهم يكذب بها، ويقول: هذه ليست آية ولا معجزة، بل سحر، وهذا يكون كافراً، وأما الصنف الثالث فهو الذي رأى الآية فقال في قلبه: هذا النبي صادق. ثم يقول جهم : هذا عرف الله وعرف النبي، فهو أيضاً مؤمن! وقد جاء بعده من حاول أن يقول: هذا مؤمن إلا أنه عاص؛ لأنه لم ينطق ولم يقل للنبي: أنا مؤمن! ولا شك في أن هذه الافتراضات خطأ، فتصور القضية خطأ، وكذلك افتراض النتيجة كان خطأ؛ فإن الله لم يبعث الرسل ليقولوا للناس: إننا أنبياء، فمن عرفنا على الحق فقد آمن، إنما قال تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ))[البينة:5] أي: إيمان قلبي وإيمان عملي بأداء الفرائض، وهذا الذي أمر به أهل الكتاب من الأمم الأخرى أيضاً. ثم جاء بعد الجهم الصالحي ، ثم نقل ذلك وأخذه أبو الحسن الأشعري وانتصر له، ثم أصبح مذهب الأشاعرة ، ولكنهم بدلاً من أن يقولوا: إن الإيمان هو المعرفة كما قال جهم ، قالوا: هو التصديق، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان خطأ هذا القول والفرق بينه وبين المعرفة.